سحر الصحراء..
بقلم : الدكتور محمد قماري
*************
السحر هو أن يختار الإنسان الشيء وهو مرغم على اختياره،
فليس بسحر أن تختار شيئا وأنت قادر على تركه، وليس بسحر أن ترغم عليه ولا
رغبة لك فيه، إنما السحر أن يرغب المرء في شيء معين، حتى إذا حاول أن يكف
عن الرغبة فيه، بدا له أنه ليس حرا في تركه، وأنه مسحورون أو منقاد إليه..يطلق
العرب اسم المفازة على الصحراء، وتعني المَهْلَكَةٌ، وإن كان أَصل
المَفازَةِ من الفوز، فتفاءلوا بالسلامة والفَوْزِ، وهذا في العربية كثير،
كإطلاق اسم البصير على الأعمى، واسم السليم على الملدوغ، فسميت الصحراء
مفازَة لأَن من خرج منها وقطعها فاز..
والصحراء التي عناها العرب، ليست صحراء اليوم، بعد ظهور طفرة البترول، حيث
يتداعى الناس للسفر أو الإقامة في البلدان النفطية، وقد كانت من قبل قفارا
يضرب بها المثل في الوحشة والخلاء من أسباب العيش..
والإنسان إذا أراد وصف مكان لا يطيب العيش فيه، قال هو صحراء وإن لم يكن
جغرافيا من أقاليم الصحاري، ومع كل هذا فأهل الصحراء يتشبثون بالعيش فيها،
ولا يرون العيش الهنيء في غيرها. .
لقد كانت نشأتي الأولى في منطقة صحراوية، ومما أذكره من أيام تلك النشأة،
أن السكان كلما أشتَّد قيظ صَمِيمُ الصيْف، وطغى الحر وامتنعت الأرض عن
الحافي والمنتعل، استرسلوا في التندر بأنفسهم بترديد كلمة قالها أحد الضيوف
في حقهم، إذ رأى الضيف ما يقاسيه الناس، فقال: بربكم هل تقيمون في هذه
المنطقة عن طواعية منكم، أو أنكم مكرهون على المكوث فيها، وهي جرداء خاوية
تلهبكم قيظاً في الصيف وتجمدهم بردا في الشتاء، ولا تنعمون فيها بنظارة
الخضرة، ولا خرير الماء، إذ المطر في الصحراء كثير الامتناع، مجهول
المواعيد مكذوب الوعود؟
ومثل هذا السائل قد لا يدرك أن سؤاله هذا قديم، وأنَّ جوابه جاء منذ قرون خلت على لسان شاعر من سكان الصحراء في قوله:
بلادٌ ألِفناها على كل حالة وقد يُؤْلَفُ الشيءُ الذي ليس بالحَسنْ
وتُسْتعذب الأرضَ التي لا هواءَ بها ولا ماؤُها عذبٌ، ولكنها وَطَنْ
وهذا هو السحر..
السحر هو أن يختار الإنسان الشيء وهو مرغم على اختياره، فليس بسحر أن تختار
شيئا وأنت قادر على تركه، وليس بسحر أن ترغم عليه ولا رغبة لك فيه، إنما
السحر أن يرغب المرء في شيء معين، حتى إذا حاول أن يكف عن الرغبة فيه، بدا
له أنه ليس حرا في تركه، وأنه مسحورون أو منقاد إليه..
وسؤال ذلك الضيف، إنما يعبر عن حالة سحر أهل الصحراء بصحرائهم، فالحيرة
أصدق تعبير عن وجود السحر، فالرجل يفتن بامرأة معينة، ويحار الناس سائلين:
والله ما ندري ما يفتنه منها فذلك هو السحر.
والصحراء ساحرة، لأنَّ ذلك السؤال الحائر قد يسأله أي فرد منا، فلو أننا
استغنينا عن السؤال، وعرفنا سبب هيام البدوي بقفاره لما كان ثمة سحر ولا
ساحر، فنحن بصدد أمر ظاهر لا باطن فيه، وقضية طبيعية تجري في مجراها، أمَّا
والحال أننَّا نسأل، لماذا يشرب البدوي الماء ويأكل التمر، ويستطيب شظف
العيش، فهذا هو العجب الذي يدفعنا إلى الاستفسار، ولا عجب في هيام البدوي
بالصحراء، حين تكون على وضع نهواه نحن ويهواه كل إنسان..
الصحراء مبسوطة مكشوفة، تنظر إلى مائة شيء فيها، فإذا بك كأنك تنظر إلى شيء
واحد، فالمناظر تتشابه والألوان والهيئات تتماثل، وأنك لتقطع المسافات
الطويلة، وتمضي عليك في سيرك الساعات المعدودة، وكأنك قائم في موضع واحد لا
تتزحزح منه قيد خطوة، فالعبرة بما يقع في وعينا لا بما تقع عليه أقدامنا،
فكيف يكون الحال بمن تنقضي عليه في تلك المناظر أعوام، ومن انقضت على آبائه
وأجداده في تعاقب تلك الفتنة أجيال؟ المؤكد أنه يتخدر كما يحدث لمن يغالبه
النعاس بالتركيز على موضع واحد أمامه فيغلبه النعاس وينام..
وتلك الطبيعة تكسب سكانها الصراحة والشرف، فيغدو البدوي ظاهره كباطنه لا
يخفي سراً، ولا يبطن دون ما يظهر أمراً، فالصحراء ليست كالمدن ولا
كالغابات، حيث يتوارى خلال تلك الأشجار المزهرة المخضرّة، وتحت تلك السقوف
المزخرفة، والقباب والسطوح المنقوشة من الرذائل والرزايا ما لا يعلمه إلا
الله، وكم من عوالم الكذب والنفاق والحسد تستوطن تلك المنعرجات والظلال.
الصحراء حرمت روعة الوديان والأنهار، وحرمت فتنة خضرة الأرض، وظلال الأشجار
والمباني كما في المدن، لكنها عوضت عن كل ذلك بجمال أبهى، وبزينة أرفع
وأسمى، ففيها جمال التلقائية والبساطة، وزينة الصراحة والصدق..
جمال التقط منه شاعر الحكمة، وحكيم الشعراء المتنبي، صورة وجه البدوية بجماله الطبيعي، حيث لا أصباغ ولا طلاء:
ما أَوجُهُ الحَضَرِ المُستَحسَناتُ بِهِ كَأَوجُهِ البَدَوِيّاتِ الرَعابيبِ
حُسنُ الحَضارَةِ مَجلوبٌ بِتَطرِيَةٍ وَفي البَداوَةِ حُسنٌ غَيرُ مَجلوبِ
أَفدي ظِباءَ فَلاةٍ ماعَرَفـنَ بِها مَضغَ الكَلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ
وَلا بَـرَزنَ مِنَ الحَمّـامِ ماثِلَةً أَوراكُهُنَّ صَقيـلاتِ العَراقيبِ
في الجزائر صحراء شاسعة، بل تمثل أغلب مساحة البلاد، ولكن لم يبق من أهل
البدو إلا جيوبا صغيرة على حواف مدن نشأت على هذه الصحاري، ولحق أهلها من
تبدل الطباع البداوة، ما يحلق سكان الحواضر والمدن، فإن تكن طبيعة الصحراء
تعلم البساطة، فالعمران والبناء يغرس روح التحوُّط، والمناورة ودقة
الحسابات، وهو ما يبطل سحر الصحراء حتى عند أهلها..
لم يعد الصحراوي يركن إلى بساطة أكسبتها إياه الطبيعة، لأن الطبيعة أمامه
تبدلت، وبطل سحرها الذي جعل آباءه يرضون بكفيف عيشهم، فما السحر الجديد
الذي يمكنه أن يشده إلى المكان، ويكون ضامنا لاستمرار عمارة الأرض بأهلها
أولا، وإشعاع يجذب غير أهلها إليها؟
إنه سحر واحد، هو أن تعوض خصاصة الطبيعة بجمال التنمية، تنمية خاصة لا
تخرم ما في الطبيعة من تفرد، وترسي قواعد استقرار البشر، بحيث لا يشعر بغبن
الطبيعة وغبن ما يحيط به فيها من اختلال في معيشته، ذلك هو السحر الجديد..